الإمام الصادق عليه السلام :
روى محمد بن سنان قال حدثنا المفضل بن عمر قال
روى محمد بن سنان قال حدثنا المفضل بن عمر قال
كنت ذات يوم بعد العصر جالسا في الروضة بين القبر و المنبر... قال المفضل فخرجت من المسجد محزونا مفكرا فيما بلى به الإسلام و أهله من كفر هذه العصابة و تعطيلها فدخلت على مولاي صلوات الله عليه فرآني منكسرا فقال ما لك فأخبرته بما سمعت من الدهريين و بما رددت عليهما... نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم و هو محجوب في ظلمات ثلاث ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء و لا دفع أذى و لا استجلاب منفعة و لا دفع مضرة فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاؤه حتى إذا كمل خلقه و استحكم بدنه و قوي أديمه على مباشرة الهواء و بصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد إزعاج و أعنفه حتى يولد
و إذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثدييها فانقلب الطعم و اللون إلى ضرب آخر من الغذاء و هو أشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ و حرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثديي أمه كالإداوتين المعلقتين لحاجته إليه فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاء حتى إذا تحرك و احتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد و يقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان و الأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه و يسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك و كان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر و عز الرجل الذي يخرج به من حد الصباء و شبه النساء و إن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها البهجة و النضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل و بقاؤه اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال أ فرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم و هو في الرحم أ لم يكن سيذوى و يجف كما يجف النبات إذا فقد الماء و لو لم يزعجه المخاض عند استحكامه
أ لم يكن سيبقى في الرحم كالموءود في الأرض و لو لم يوافقه اللبن مع ولادته أ لم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه و لا يصلح عليه بدنه و لو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها أ لم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام و إساغته أو يقيمه على الرضاع فلا يشد بدنه و لا يصلح لعمل ثم كان تشتغل أمه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد و لو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته أ لم يكن سيبقى في هيئة الصبيان و النساء فلا ترى له جلالة و لا وقارا فقال المفضل فقلت يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته و لا ينبت الشعر في وجهه و إن بلغ حال الكبر فقال ذلك بما قدمت أيديهم و إن الله ليس بظلام للعبيد فمن هذا الذي يرصده حتى يوافيه بكل شيء من هذه المآرب إلا الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن ثم توكل له بمصلحته بعد أن كان فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد و التقدير يأتيان بالخطإ و المحال لأنهما ضد الإهمال و هذا فظيع من القول و جهل من قائله لأن الإهمال لا يأتي بالصواب و التضاد لا يأتي بالنظام تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا
و لو كان المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته و لبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف و ورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم و الطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة و يوما بعد يوم و اعتبر ذلك بأن من سبي من بلد إلى بلد و هو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع في تعلم الكلام و قبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى في المهد لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه و رطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة و الوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا غافلا عما فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف و معرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا و شيئا بعد شيء و حالا بعد حال حتى يألف الأشياء و يتمرن و يستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها و الحيرة فيها إلى التصرف و الاضطراب إلى المعاش بعقله و حيلته و إلى الاعتبار و الطاعة و السهو و الغفلة و المعصية و في هذا أيضا وجوه أخر
فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد و ما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة و ما يوجب تربية للآباء على الأبناء من المكلفات بالبر و العطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم و لا يألف الآباء أبناءهم لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء و حياطتهم فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه و أمه و لا يمتنع من نكاح أمه و أخته و ذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن و أقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع و أعظم و أفظع و أقبح و أبشع لو خرج المولود من بطن أمه و هو يعقل أن يرى منها ما لا يحل له و لا يحسن به أن يراه أ فلا ترى كيف أقيم كل شيء من الخلقة على غاية الصواب و خلا من الخطإ دقيقه و جليله اعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة و اعلم أن في أدمغة الأطفال رطوبة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة و عللا عظيمة من ذهاب البصر و غيره فالبكاء يسيل تلك الرطوبة من رءوسهم فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم و السلامة في أبصارهم
أ فليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء و والداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان ليسكتاه و يتوخيان في الأمور مرضاته لئلا يبكي و هما لا يعلمان أن البكاء أصلح له و أجمل عاقبة فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلونبالإهمال و لو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشيء أنه لا منفعة فيه من أجل أنهم لا يعرفونه و لا يعلمون السبب فيه فإن كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون و كثير مما يقصر عنه علم المخلوقين محيط به علم الخالق جل قدسه و علت كلمته فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففي ذلك خروج الرطوبة التي لو بقيت في أبدانهم لأحدثت عليهم الأمور العظيمة كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حد البله و الجنون و التخليط إلى غير ذلك من الأمراض المختلفة كالفالج و اللقوة و ما أشبههما فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم فتفضل على خلقه بما جهلوه و نظر لهم بما لم يعرفوه و لو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم ذلك عن التمادي في معصيته فسبحانه ما أجل نعمته و أسبغها على المستحقين و غيرهم من خلقه و تعالى عما يقول المبطلون علوا كبيرا....